فصل: تفسير الآيات (41- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا قَامَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّصَارَى بِبُطْلَانِ ثَالُوثِهِمُ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ ثَالُوثَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ، ادَّعُوا أَنَّ لَهُ أَصْلًا مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَوْ تَلَامِيذِهِ، وَأَنَّهُ بِهَذَا لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ، فَالثَّلَاثَةُ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْمُؤَرِّخُونَ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَأَنَّ كَلِمَاتِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ لَهَا مَعَانٍ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْمَسِيحِ فِي حَيَاتِهِ، هِيَ غَيْرُ الْمَعَانِي الِاصْطِلَاحِيَّةِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْكَاثُولِيكِ وَالْأُرْثُوذُكْسِ وَالْبُرُوتُسْتَانْتِ الْجَامِعَةِ لِأَكْثَرِ النَّصَارَى. وَالْأَحْرَارُ الْعَقْلِيُّونَ مِنْ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ يَرْفُضُونَهَا كُلُّهُمْ، وَهُمْ مَلَايِينُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ جَامِعَةٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ مَا قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَرَفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ لَكَانُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ وَيُسْلِمُونَ اتِّبَاعًا، كَمَا أَسْلَمُوا فِطْرَةً وَعَقْلًا.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أَيْ مَا الْحُكْمُ الْحَقُّ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ يُوحِيهِ لِمَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ رُسُلِهِ، لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَلَا بِعَقْلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ، وَلَا بِاجْتِهَادِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ هِيَ أَسَاسُ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَوَّلَ أَصْلٍ بُنِيَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ مَنْ عَرَفَهَا، فَقَالَ: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} بَلْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ فَادْعُوا وَاعْبُدُوا، وَلَهُ وَحْدَهُ فَارْكَعُوا وَاسْجُدُوا، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ فَتَوَجَّهُوا، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَلَا مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْحَاكِمِينَ، وَلَا كَاهِنًا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَلَا نَجْعًا وَلَا شَجَرًا، وَلَا نَهْرًا مُقَدَّسًا كَالْكِنْجِ وَالنِّيلِ، وَلَا حَيَوَانًا كَالْعِجْلِ أَبِيسَ، فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لِلَّهِ لَا يَذِلُّ نَفْسَهُ بِالتَّعَبُّدِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ بِدُعَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمُدَبِّرُ الْمُسَخِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ خَاضِعٌ لِإِرَادَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَى الَّتِي هِيَ قِوَامُ جِنْسِهِ وَمَادَّةُ حَيَاةِ شَخْصِهِ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 20: 50 فَإِلَيْهِ وَحْدَهُ الْمَلْجَأُ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ أَوْ يَجْهَلُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْحِسَابِ {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أَيِ الْحَقُّ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ مِنْ جَهَالَةِ الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ أَقْوَامَهُمْ وَمِنْهُمْ آبَائِي: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ذَلِكَ حَقَّ الْعِلْمِ، لِاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَ آبَائِهِمُ الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقَةً لَيْسَ لَهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ أَدْنَى نَصِيبٍ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ فِي مِئَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تُتْلَى فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ بِالْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ، صَارَ يَجْهَلُهَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ نَفْسِهِ، فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِ اللهِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ أَوْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضِ مَا يُحِبُّونَ مِنَ النَّفْعِ، فَيَدْعُونَهُمْ خَاشِعِينَ رَاغِبِينَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيُسَمُّونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِلَ عِنْدَ اللهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ جَمِيعَ رُسُلِ اللهِ دَعُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ، زَاعِمِينَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ انْفَرَدَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَالرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَقَطْ، كَمَا يَفْهَمُونَ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْإِفْرِنْجِ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا فِي الصُّحُفِ وَفِي أَسْفَارِ التَّارِيخِ وَفِيمَا يُسَمُّونَهُ فَلْسَفَةَ الدِّينِ أَوْ فَلْسَفَةَ التَّفْكِيرِ، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْبَشَرَ نَشَئُوا عَلَى الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم مِنْ زُهَاءِ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بِتَصْرِيحِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ رُسُلًا دَعَوْهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ عليه السلام فَإِنَّ قَوْمَهُ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ الصَّالِحِينَ الْمَيِّتِينَ وَاتَّخَذُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالْأَصْنَامَ، وَكَانَ الْبَشَرُ قَبْلَهُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ وَتَوْحِيدِ آدَمَ عليه السلام.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ عليه السلام لَمْ يَدْعُ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ وَسَائِرِ مَنْ كَانَ مَعَهُمَا فِيهِ إِلَى غَيْرِ التَّوْحِيدِ مِنْ شَرْعِ آبَائِهِ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ قلت: إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا أَصْحَابَ شَرِيعَةٍ تَامَّةٍ لَمْ يُبْعَثْ لِنَسْخِهَا وَلَا لِتَغْيِيرِهَا، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ سَمَاوِيَّةٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَحْدَثُوا تَقَالِيدَ خَيَالِيَّةً فِي الْبَعْثِ، فَهُوَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْآخِرَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 37 يَعْنِي كُفْرَهُمْ بِأَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ فِي عَالَمٍ آخَرَ بَعْدَ فَنَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ، وَبَعْثَهُمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى لَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَمَا يَزْعُمُونَ، وَعَقَائِدُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُدَوَّنَةٌ فِي التَّارِيخِ الْمَأْخُوذِ مِنْ آثَارِ الْفَرَاعِنَةِ، وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَنِّطُونَ أَجْسَادَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهَا الْحَيَاةُ الَّتِي فَارَقَتْهَا، وَكَانَ مُلُوكُهُمْ يَحْفَظُونَ فِي أَهْرَامِهِمْ وَغَيْرِهَا مِنْ قُبُورِهِمْ حُلِيَّهُمْ وَحُلَلَهُمْ وَمَتَاعَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِهَا فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى حَيْثُ يَعُودُونَ مُلُوكًا كَمَا كَانُوا، فَهَذِهِ أَبَاطِيلُ طَرَأَتْ عَلَى الْعَقَائِدِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَتَقَالِيدُهُ هَذِهِ مَنْقُوشَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَهْرَامِ وَتَوَابِيتِ الْمَوْتَى وَصَفَائِحِ الْقُبُورِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِنَعِيمِ الْعَوَامِّ، وَمِنْهُ أَنَّهُمْ يَتَشَكَّلُونَ بِالصُّوَرِ الَّتِي يُحِبُّونَهَا. وَتَشَكُّلُ الْأَرْوَاحِ فِي الصُّوَرِ هُوَ الْأَصْلُ الْعِلْمِيُّ الْمَعْقُولُ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ فِي هَيْكَلٍ أَثِيرِيٍّ يَلْبَسُ جَسَدًا كَثِيفًا كَالْجَسَدِ الدُّنْيَوِيِّ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللهُ- وَمِنْهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَشَكُّلِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ فِي صُوَرِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّشَكُّلُ عَلَى أَكْمَلِهِ فِي الْجَنَّةِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خَيْرِ أَهْلِهَا.
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَتَرْكُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَكَانَ يُوسُفُ عليه السلام يَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا كَانَ خَيْرَ قُدْوَةٍ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّتِهِ فِي بَيْتِ وَزِيرِ الْبِلَادِ وَفِي السِّجْنِ ثُمَّ فِي إِدَارَتِهِ لِأُمُورِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَى سَائِرِ شَرِيعَتِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي احْتِيَالِهِ عَلَى أَخْذِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ بِمُقْتَضَى شَرِيعَتِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} 76. إلخ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)}
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ، عن قتادة رضي الله عنه في الآية. قال لما عرف نبي الله يوسف عليه السلام إن أحدهما مقتول، دعاهما إلى حظهما من ربهما وإلى نصيبهما من آخرتهما.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه: {يا صاحبي السجن} يوسف يقوله.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أبي العالية رضي الله عنه في قوله: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} قال: أسس الدين على الإِخلاص لله وحده ولا شريك له.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {ذلك الدين القيم} قال العدل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
قوله تعالى: {ياصاحبي السجن}: يجوز أن يكون من باب الإِضافة للظرف، إذ الأصل يا صاحبي في السجن. ويجوز أن تكون من باب الإِضافة إلى المشبه بالمفعول به، والمعنى: يا ساكني السجن كقوله: {أَصْحَابُ النار} [البقرة: 39].
قوله: {مِن شَيْءٍ} [يوسف: 38] يجوز أن يكون مصدرًا، أي: شيئًا من الإِشراك. ويجوز أن يكون واقعًا على المُشْرَك، أي: ما كان لنا أَنْ نُشْرك شيئًا غيرَه مِنْ مَلَك وإنْسِيّ وجني فكيف بصنم؟ ومِنْ مزيدة على التقديرين لوجودِ الشرطين. قوله: {أَمِ الله} هنا متصلةٌ عطفت الجلالة على أرباب.
{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ}
قوله تعالى: {إِلاَّ أَسْمَاءً}: إمَّا أن يُراد بها المُسَمَّياتُ أو على حذف مضاف، أي: ذوات لمُسَمَّيات. و: {سَمَّيْتموها} صفةٌ، وهي متعدية لاثنين حُذِف ثانيهما، أي: سمَّيْتموها آلهة و: {ما أنزل} صفةٌ ل: {أسماء} و: {مِنْ} زائدة في: {منْ سلطان}، أي: حُجَّة. و: {إنِ الحكم} {إنْ} نافية. ولا يجوز الإِتباعُ لضمة الحاء كقوله: {قالتُ اخْرُجْ} ونحوه، لأنَّ الألف واللامَ كلمةٌ مستقلة فهي فاصلةٌ بينهما.
قوله: {أَمَرَ أَلاَّ} يجوز في: {أَمَر} أن يكون مستأنفًا، وهو الظاهر، وأن يكون حالًا و: {قد} معه مرادةٌ عند بعضهم. قال أبو البقاء: وهو ضعيفٌ لضعف العامل فيه قلت: يعني بالعامل ما تضمَّنه الجارُّ في قولِه: {إلا للَّه} من الاستقرار. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}
التَّثَبُّتُ في الجواب دون التسرع من أمارات أهل المكارم، كيوسف عليه السلام وعدهما أن يجيبهَما ولم يُسْرعْ الإجابةَ في الوقت. ويقال لمَّا أَخَّرَ الإجابة عَلَّقَ قلوبهمَا بالوعد؛ وإذا لم يكن نَقْدٌ فليكن وَعْدٌ.
ويقال لمَّا فاتحوه بسؤالهم قدَّم على الجواب ما اقترحه عليهما من كلمة التوحيد فقال: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ...}.
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}
ولما فرغَ من تفسير التوحيد، والدعاء إلى الحق سبحانه أجابهما فقال: {ياصاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}.
هكذا كاد يوسف عليه السلام ألا يسكتَ حين أخذ في شرح التوحيد وذكر المعبود، وفي الخبر: «مَنْ أحبَّ شيئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِه». اهـ.

.تفسير الآيات (41- 42):

قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم نصحه وعلا قدحه بإلقائه إليهما ما كان أهمّ لهما لو علما لمآله إلى الحياة الأبدية والرفعة السرمدية.
أقبل على حاجتهما تمكينًا لما ذكره وتأكيدًا للذي قرره، فناداهما بالأداة الدالة على أن ما بعدها كلام له موقع عظيم لتجتمع أنفسهما لسماع ما يلقى إليهما من التعبير، فقال: {ياصاحبي السجن} أي الذي تزول فيه الحظوظ ويحصل الانكسار للنفس والرقة في القلب فتتخلص فيه المودة.
ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز، أبهم ليجوّز كل واحد أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذرًا له في الخروج عن الأليق فقال: {أما أحدكما} وهو الساقي فيلخص ويقرب: {فيسقي ربه} أي سيده الذي في خدمته: {خمرًا} كما كان: {وأما الآخر} وهو الخباز.
ولما كان الذي له قوة أن يصلب إنما هو الملك، بنى للمفعول قوله: {فيصلب} ويعطب: {فتأكل} أي فيتسبب عن صلبه أنه تأكل: {الطير من رأسه} والآية من الاحتباك: ذكر ملزوم السلامة والقرب أولًا دليلًا على العطب ثانيًا، وملزوم العطب ثانيًا دليلًا على السلامة أولًا، وسيأتي شرح تعبيره من التوراة، فكأنه قيل: انظر جيدًا ما الذي تقول! وروى أنهما قالا: ما رأينا شيئًا، إنما كنا نلعب، فقال مشيرًا بصيغة البناء للمفعول إلى عظمة الله وسهولة الأمور عليه: {قضي الأمر} وبينه بقوله: {الذي فيه} أي لا في غيره: {تستفتيان} أي تطلبان الإفتاء فيه عملًا بالفتوة، فسألتما عن تأويله، وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما، لم أقله عن جهل ولا غلط.
وما أحسن إيلاء هذا العلم الثابت لختم الآية السالفة بنفي العلم عن الأكثر، والأحد: المختص من المضاف إليه بمبهم له مثل صفة المضاف، ولا كذلك البعض فلا يصدق: رأيت أحد الرجلين- ألا برجل منهما، بخلاف بعض والفتيا: الجواب بحكم المعنى، وهو غير الجواب بعلته- ذكره الرماني.
ولعل رؤيتهما تشيران إلى ما تشير إليه رؤيا الملك، فالعصير يشير إلى السنابل الخضر والبقر السمان، لأنه لا يكون إلا عن فضل، والخبز- الذي طارت به الأطيار، وسارت بروح صاحبه الأقدار-يشير إلى اليابسة والعجاف- والله أعلم.
ولما كان كل علم بالنسبة إلى علم الله عدمًا، عبر عن علمه بالظن، ويمكن أن يكون الظن على بابه لكونه قال ما مضى اجتهادًا بقرائن فيؤخذ منه أنه يسوغ الجزم بما أدى إلى ظن، فقال: {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام: {للذي ظن} مع الجزم بأنه أراد به العلم لقوله: {قضى الأمر}، ويجوز أن يكون ضمير: {ظن} للساقي، فهو حينئذ على بابه: {أنه ناج منهما} وهو الساقي: {اذكرني عند ربك} أي سيدك ملك مصر، بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رُميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله: {أرباب متفرقون} [يوسف: 39].
فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قال لهما يوسف عليه الصلاة والسلام: {فأنساه} أي الساقي: {الشيطان} أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة: {ذكر} يوسف عليه الصلاة والسلام عند: {ربه} أي بسبب اعتماده عليه في ذلك: {فلبث} أي يوسف عليه الصلاة والسلام بسبب هذا النسيان: {في السجن} من حين دخل إلى أن خرج: {بضع سنين} ليعلم أن جميع الأسباب إنما أثرها بالله تعالى، وحقيقة البضع من الثلاث إلى التسع، والمروي هنا أنه كان سبعًا.
ذكر ما مضى من هذه القصة من التوراة:
قال بعد ما مضى: فأهبط المدينيون يوسف إلى مصر، فاشتراه قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون- رجل مصري- من يد الأعراب الذين أهبطوه إلى هناك، فكان الرب سبحانه وتعالى بعونه مع يوسف، وكان رجلًا منجحًا، وأقام في منزل المصري سيده، فرأى سيده أن الرب بعونه معه، وأن الرب ينجح جميع أفعاله، فظفر يوسف منه برحمة ورأفة فخدمه، وسلطه على بيته، وخوله جميع ما له، ومن اليوم الذي سلطه على بيته وخوله جميع ما له بارك الرب في بيت المصري من أجل يوسف وفي سببه، فحلَّت بركة الرب في جميع ما له في البيت والحقل، فخول كل شيء له، ولم يكن يعلم بشيء مما له في يده لثقته به ما خلا الخبز الذي كان يأكله، وكان يوسف حسن المنظر صبيح الوجه.
فلما كان بعد هذه الأمور لمحت امرأة سيده بنظرها إلى يوسف فقالت له: ضاجعني: فأبى ذلك وقال لامرأة سيده: إن سيدي لثقته بي ليس يعلم ما في بيته، وقد سلطني على جميع ما له، وليس في هذا البيت أعظم مني، ولم يمنعني شيئًا ما خلاك أنت لأنك امرأته، فكيف أرتكب هذا الشر العظيم، فأخطئي بين يدي الله، وإذا كانت تراوده كل يوم لم يطعها ليضاجعها ويصير معها، فبينا هو ذات يوم دخل يوسف إلى البيت ليعمل عملًا، ولم يكن أحد من أهل البيت هناك، فتعلقت بقميصه وقالت له: ضاجعني، فترك قميصه في يدها وهرب، فخرج إلى السوق، فلما رأت أنه قد ترك قميصه في يدها وخرج هاربًا إلى السوق، دعت بأهل بيتها وقالت لهم: انظروا، إنه أتانا رجل عبراني ليفضحنا، لأنه دخل عليّ يريد مضاجعتي، وهتفت بصوت عال، فلما رآني قد رفعت صوتي وهتفت، ترك قميصه في يدي وهرب إلى السوق.